فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{الم} الألفاظُ التي يعبّر بها عن حروف المعجمِ التي من جملتها المُقطّعاتُ المرقومةُ في فواتح السورِ الكريمة أسماءٌ لها، لاندراجها تحت حدِّ الاسم، ويشهدُ به ما يعتريها من التعريف والتنكيرِ والجمعِ والتصغيرِ وغير ذلك من خصائص الاسم، وقد نص على ذلك أساطينُ أئمة العربية، وما وقع في عبارات المتقدمين من التصريح بحَرْفيتها محمولٌ على المسامحة، وأما ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنةٌ والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقول ألمْ حرفٌ بل ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف» وفي رواية الترمذي والدارمي: «لا أقول ألم حرفٌ وذلك الكتابُ حرف ولكنِ الألفُ حرفٌ واللامُ حرفٌ والميمُ حرفٌ والذالُ حرفٌ والكافُ حرفٌ» فلا تعلّقَ له بما نحن فيه قطعًا، فإن إطلاقَ الحرف على ما يقابل الاسمَ والفعلَ عرفٌ جديدٌ اخترعه أئمةُ الصناعة. وإنما الحرفُ عند الأوائل ما يتركب منه الكلمُ من الحروف المبسوطة، وربما يطلق على الكلمة أيضًا تجوزًا، وأريد به في الحديث الشريف دفعُ توهمِ التجوُّز، وزيادةُ تعيينِ إرادةِ المعنى الحقيقي ليتبين بذلك أن الحسنةَ الموعودةَ ليست بعدد الكلماتِ القرآنية، بل بعدد حروفها المكتوبةِ في المصاحف، كما يلوِّح به ذكرُ كتابِ الله دون كلامِ الله أو القرآن، وليس هذا من تسمية الشيء باسم مدلولهِ في شيء كما قيل، كيف لا والمحكومُ عليه بالحرفية واستتباعِ الحسنةِ إنما هي المسمّياتُ البسيطةُ الواقعةُ في كتاب الله عز وعلا، سواءٌ عُبّر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السينُ مهملة والشينُ مثلثة وغير ذلك مما لا يصدُق المحمولُ إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلنا الألف مؤلف من ثلاثة أحرف، فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى: {ذلك الكتاب} بمقابلة حروفهِ البسيطة، وموافقةٌ لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى: {الم} بمقابلة حروفهِ الثلاثة المكتوبة وموافقةٌ لعددها، لا بمقابلة أسمائِها الملفوظة والألفاتِ الموافقةِ في العدد، إذِ الحكمُ بأن كلًا منها حرفٌ واحد مستلزمٌ للحكم بأنه مستتبعٌ لحسنةٍ واحدة، فالعبرةُ في ذلك بالمعبَّر عنه دون المعبَّر به، ولعل السرَّ فيه أن استتباعَ الحسنةِ منوطٌ بإفادة المعنى المرادِ بالكلمات القرآنية. فكما أن سائرَ الكلماتِ الشريفة لا تفيد معانيَها إلا بتلفظ حروفِها بأنفسها، كذلك الفواتحُ المكتوبةُ لا تفيد المعانيَ المقصودةَ بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها، فجُعل ذلك تلفظًا بالمسمَّيات كالقسمِ الأول من غير فرقٍ بينهما.
ألا ترى إلى ما في الروايةِ الأخيرةِ من قوله عليه السلام: «والذالُ حرفٌ والكاف حرف».
كيف عبّر عن طَرَفي ذلك باسميهما، مع كونهما ملفوظين بأنفسهما، ولقد روعيَتْ في هذه التسميةِ نُكتةٌ رائعة حيث جُعِلَ كلُ مسمىً لكونه من قبيل الألفاظ صَدْرًا لاسمه، ليكون هو المفهومَ منه إثرَ ذي أثير، خلا أن الألفَ حيث تعذّر الابتداءُ بها استُعيرت مكانها الهمزة، وهي مُعرَبة إذ لا مناسبةَ بينها وبين مبنيِّ الأصل، لكنها ما لم تلِها العواملُ ساكنةُ الأعجاز على الوقف كأسماء الأعدادِ وغيرِها، حين خلت عن العوامل، ولذلك قيل: صادْ، وقافْ، مجموعًا فيهما بين الساكنين، ولم تعامَلْ معاملةَ أين وكيف وهؤلاءِ، وإن وَلِيَها عاملٌ مسها الإعرابُ، وقصرُ ما آخِرُه ألفٌ عند التهجي لابتغاء الخِفةِ لا لأن وِزانَه وزانُ لا تقصَرُ تارةً فتكونُ حرفًا وتمُدّ أخرى فتكون اسمًا لها كما في قولِ حسانَ رضي الله عنه:
ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّده ** لولا التشهُّدُ لم تُسْمَعْ له لاءُ

هذا وقد تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمةِ وما أريد بها فقيل: إنها من العلوم المستورةِ، والأسرارِ المحجوبة، رُوي عن الصّدّيق أنه قال: في كل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن أوائلُ السور.
وعن عليّ رضي الله عنه: إن لكل كتابٍ صفوةً وصفوةُ هذا الكتابِ حروفُ التهجّي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عجِزتِ العلماءُ عن إدراكها.
وسُئل الشعبي عنها فقال: سرُّ الله عز وجل فلا تطلُبوه.
وقيل: إنها من أسماء الله تعالى، وقيل: كلُّ حرفٍ منها إشارة إلى اسمٍ من أسماء الله تعالى، أو صفةٍ من صفاته تعالى. وقيل: إنها صفاتُ الأفعال، الألفُ آلاؤُه، واللام لُطفه، والميمُ مجدُه ومُلكُه، قاله محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي. وقيل: إنها من قبيل الحساب، وقيل: الألفُ من الله، واللامُ من جبريلَ، والميمُ من محمد، أي الله أنزل الكتابَ بواسطة جبريلَ على محمدٍ عليهما الصلاة والسلام. وقيل: هي أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة، لشرفها من حيث إنها أصولُ اللغاتِ ومبادئ كتبِه المنزلة، ومباني أسمائِه الكريمة، وقيل: إشارةٌ إلى أنتهاء كلامٍ وابتداءِ كلامٍ آخرَ، وقيل، وقيل.
ولكن الذي عليه التعويلُ: إما كونُها أسماءً للسور المصدرة بها، وعليه إجماعُ الأكثر، وإليه ذهب الخليلُ وسيبويه، قالوا سمِّيت بها إيذانًا بأنها كلماتٌ عربيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ، فيكون فيه إيماءٌ إلى الإعجاز والتحدّي على سبيل الإيقاظِ، فلولا أنه وحيٌ من الله عز وجل لما عجِزوا عن معارضته، ويقرُب منه ما قاله الكلبيُّ والسّدي وقَتادة من أنها أسماءٌ للقرآن، والتسمية بثلاثة أسماءٍ فصاعدًا إنما تُستنكر في لغة العرب إذا رُكِّبَتْ وجُعلت إسمًا واحدًا، كما في حَضْرَموت، فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها، والمسمى هو المجموعةُ لا الفاتحة فقط، حتى يلزمَ اتحادُ الاسمِ والمسمى، غايةُ الأمر دخولُ الاسم في المسمى، ولا محذورَ فيه، كما لا محذورَ في عكسه حسبما تحققْتَه آنفًا، وإنما كُتبت في المصاحف صورُ المسميات دون صور الأسماءِ لأنه أدلَّ على كيفية التلفّظ بها، وهي إمَّا أن يكون على نهْج التهجّي دون التركيب ولأن فيه سلامةً من التطويل لاسيما في الفواتحِ الخُماسية، على أن خطَّ المُصحف مما لا يناقَشُ فيه بمخالفة القياسِ، وإما كونها مسرودةً على نمط التعديد، وإليه جنَح أهلُ التحقيق.
قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظًا لمن تُحِدِّيَ بالقرآن، وتنبيهًا لهم على أنه منتظمٌ من عين ما ينظِمون منه كلامَهم، فلولا أنه خارجٌ عن طوْق البشر، نازلٌ من عند خلاّق القُوى والقَدَر، لما تضاءلت قوتُهم، ولا تساقطت قدرتُهم، وهم فرسانُ حَلْبةِ الحِوار، وأُمراءُ الكلام في نادي الفخار، دون الإتيانِ بما يُدانيه، فضلًا عن المعارَضة بما يُساويه، مع تظاهرهم في المضادّة والمضارّة، وتهالُكِهم على المعَازة والمعارّة.
أو ليكونَ مطلَعُ ما يُتلى عليهم مستقلًا بضربٍ من الغرابة، أُنموذجًا لما في الباقي من فنون الإعجاز، فإن النطقَ بأنفُس الحروفِ في تضاعيف الكلام، وإن كان على طرَف التمام، يتناولُه الخواصُّ والعوامُّ، من الأعراب والأعجام، لكن التلفظَ بأسمائها إنما يتأتَّى ممن درَس وخطَّ، وأما ممن لم يحُمْ حولَ ذلك قطّ، فأعزُّ من بَيْض الأَنُوق، وأبعدُ من مَناط العَيُّوق، لاسيما إذا كان على نمط عجيب، وأسلوبٍ غريب، مُنْبئ عن سرَ سِرِّيَ، مبنيَ على نهجٍ عبقري، بحيث يَحارُ في فهمه أربابُ العقول، ويعجِزُ عن إدراكه ألبابُ الفحول.
كيف لا وقد وردت تلك الفواتحُ في تسعٍ وعشرين سورةً على عدد حروف المُعجم، مشتملةً على نصفها تقريبًا، بحيث ينطوي على أنصاف أصنافِها تحقيقًا أو تقريبًا، كما يتّضحُ عند الفحص والتنقير، حسبما فصّله بعضُ أفاضِلِ أئمةِ التفسير.
فسبحان من دقّتْ حكمتُه من أن تطالعَها الأنظارُ، وجلّت قُدرتُه عن أن تنالَها أيدي الأفكار، وإيرادُ بعضِها فرادى وبعضِها ثنائيةً إلى الخماسية جرَى على عادة الافتنان، مع مراعاة أبنيةِ الكَلِم وتفريقِها على السور، دون إيرادِ كلِّها مرةً لذلك ولِما في التكرير والإعادة من زيادة إفادةٍ، وتخصيصُ كلَ منها بسُورتها مما لا سبيلَ إلى المطالبة بوجهه، وعدُّ بعضِها آيةً دون بعضٍ مبنيٌّ على التوقيف البحت.
أما {الم} فآيةٌ حيثما وقعت، وقيل في آل عمرانَ ليست بآية، و{المص} آية، و{المر} لم تُعدَّ آية، و{الر} ليست بآية في شيءٍ من سورها الخمس، و{طسم} آية في سورتيها، و{طاه} و{ياس} آيتان، و{طس} ليست بآية، و{حم} آيةٌ في سُوَرِها كلِّها، و{كهيعص} آية، و{حم عسق} آيتان، و{ص} و{ق} و{ن} لم تُعَدَّ واحدةٌ منها آية. هذا على رأي الكوفيين.
وقد قيل: إن جميعَ الفواتحِ آياتٌ عندهم في السور كلِّها بلا فرقٍ بينها، وأما مَنْ عداهم فلم يعُدّوا شيئًا منها آية، ثم إنها على تقدير كونها مسرودةً على نَمطِ التعديدِ لا تُشَمُّ رائحةَ الإعراب، ويوقفُ عليها وقفَ التمام، وعلى تقدير كونِها أسماءً للسور أو للقرآنِ كان لها حظٌّ منه، إما الرفعُ على الابتداء أو على الخبرية، وإما النصبُ بفعل مُضمَرٍ، كاذكُرْ، أو بتقدير فعلِ القَسَم على طريقة: الله لأفعلن، وإما الجرُ بتقدير حرفِه حسبما يقتضيه المقام، ويستدعيه النظام، ولا وقف فيما عدا الرفعَ على الخبرية، والتلفظُ بالكل على وجه الحكاية ساكنةَ الأعجاز، إلا أن ما كانت منها مفردةً مثل: {ص} و{ق} و{ن} يتأتى فيها الإعرابُ اللفظيُ أيضًا، وقد قُرئت بالنصب على إضمار فعلِ، أي اذكُرْ أو اقرأْ صادَ وقافَ ونونَ، وإنما لم تنوَّنْ لامتناع الصرف، وكذا ما كانت منها موازنةً لمفردٍ نحوِ {حم} و{يس} و{طس} الموازنةَ لقابيلَ وهابيلَ، حيث أجاز سيبويهِ فيها مثلَ ذلك قال في باب أسماء السور من كتابه: وقد قرأ بعضُهم ياسينَ والقرآنِ، وقافَ والقرآنِ، فكأنه جعله اسمًا أعجميًا، ثم قال اذكُرْ ياسينَ، انتهى.
وحكى السيرافيُّ أيضًا عن بعضهم قراءة: {ياسينَ} ويجوز أن يكون ذلك في الكل تحريكًا لالتقاء الساكنين، ولا مَساغَ للنصب بإضمار فعلِ القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلمِ محلوفٌ بهما، وقد استكرهوا الجمعَ بين قَسَمين على مُقسَمٍ عليه واحدٍ قبل انقضاءِ الأول، وهو السرُّ في جعل ما عدا الواوِ الأولى في قوله تعالى: {واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} عاطفةً، ولا مجال للعطف هاهنا للمخالفة بين الأولِ والثاني في الإعراب، نعم يجوز ذلك بجعل الأولِ مجرورًا بإضمارِ الباءِ القسَمية، مفتوحًا لكونه غيرَ منصرِف، وقرئ: {ص} و{ق} بالكسر على التحريك لالتقاءِ الساكنين، ويجوز في طاسين ميم أن تفتح نونُها، وتُجعلَ من قبيل دارًا بجَرَد ذكره سيبويه في كتابه. وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكايةُ. وسيجيء تفاصيلُ سائر أحكامِ كلَ منها مشروحةً في مواقعها بإذن الله عزَّ سلطانُه. أما هذه الفاتحةُ الشريفةُ فإن جُعلت اسمًا للسورة أو للقرآنِ فمحلُها الرفع، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقديرُ هذا {الم} أي مسمًّى به، وإنما صحت الإشارةُ إلى القرآن بعضًا أو كلًا مع عدم سبْق ذكرِه لأنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد، كما يقال هذا ما اشترى فلان.
وإما على أنه مبتدأ، أي المسمَّى به والأولُ هو الأظهر، لأن ما يُجعلُ عنوانَ الموضوع حقُه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتساب إليه عند المخاطَب، وإذ لا عِلْمَ بالتسمية قبلُ فحقُها الإخبارُ بها، وادعاءُ شهرتها يأباه الترددُ في أن المسمَّى هي السورةُ أو كلُّ القرآن. اهـ.

.قال الألوسي:

{الم} هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها كبا تا ثا أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك؟ فقالوا: باء كاف، فقال إنما جئتم بالاسم لا الحرف وأنا أقول به كه.
وما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلام حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف الخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله عليه وسلم سمى ذلك حرفًا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل إنه سماه حرفًا مجازًا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من {الم} مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضًا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذٍ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2] والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل ألف حرف ولام حرف تنبيهًا على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين.
والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدئ بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما لا كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربًا من المعاوضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسمية النحاة نحتًا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي وللناس فيما يعشقون مذاهب.
والبحث مستوفى في كتبنا النحوية.
وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارًا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيًا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانًا وهدى ولما أمكن التحدي به، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها بناءً على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه، الأول أنا نجد سورًا كثيرة افتتحت بآلما وحم والمقصود رفع الاشتباه.
الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران.
الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدمًا متأخرًا معًا وهو محال، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح» وفي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص} وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركًا فترك لاحتياجه إلى ضميمة كآلام هنا، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلًا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسمًا واحدًا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى.
وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ كشاب قرناها، وسر من رأى، ودارابجرد وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفًا منه ومن غيره كصاد فهما متغايران ذاتًا وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدًا ووقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصًا فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها، كما يقولون: قرأت بانت سعاد وقل هو الله أحد أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند، هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء كما قال ابن عباس عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه:
بين المحبين سر ليس يفشيه ** قول ولا قلم للخلق يحكيه

فلا يعرفه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقًا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل الخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيها حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله.
نجوم سماء كلما انقض كوكب ** بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسئل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر.
لو قال تيها قف على جمر الغضى ** لوقفت ممتثلًا ولم أتوقف

على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبًا إليه أبدًا ومتلفتًا نحوه سرمدًا ومتفكرًا فيه وطائرًا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدًا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيًا مبينًا مثلًا لأنه بالنسبة إلى من علمت.
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى أن أفرادها في {ص} و{ق} و{ن} وتثنيتها في {يس} و{طه} وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدًا ولم بلغت خمس حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في فتوحاته أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله: إعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعًا وعشرين سورة وهو كمال الصورة {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} [يس: 9 3] والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجود وهو سورة آل عمران (1، 2).
{الم الله} ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفًا فالثمانية حقيقة البضع قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون» وهذه الحروق ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفًا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدًا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدمًا بقدم لا يختل أبدًا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعًا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فاشارة إلى فناء رسم العبد أزلًا أو ما أثبته فاشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فاشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدئ نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله: {ينزل ربنا إلى السماء الدنيا} وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر؛ ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفًا إلى الخلق فلابد من تعلقها بهم.
ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسًا من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار ألم فلكا محيطًا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال، وذكر في كتاب الاسرا إلى المقام الأسرى ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحًا وتضعه يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى أنخرام الطبيعة، ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام أن عليًا رضي الله تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من {حم عسق} [الشورى: 1، 2] واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1، 2] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد {الم} بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة: {غلبت} بفتح الغين واللام و{سيغلبون} بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ** ونور ولا نار وروح ولا جسم

فاعلم: أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرًا فمن قصوره أو زعم أنه أتي بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالايقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلًا بضرب من الغرابة أنموذجًا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولاسيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبئ عن سر سري مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم النظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك ردّ شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال يا كهيعص ويا حمعسق على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج.
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحًا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضًا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضًا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 27] أيضًا في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضًا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عز وجل، وأيضًا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف، وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور من الأغيار.
ومن الظرائف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير علي كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه صراط على حق نمسكه ولك أيها السنى أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابًا للشيعي وتذكيرًا له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو طرق سمعك النصيحة وهذا مثل ما ذكروه حرفًا بحرف وإن شئت قلت صح طريقك مع السنة ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد.
وكل يدعي وصلًا لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا

وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو نحو {ق والقرءان} [ق: 1] مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب إن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد إن كانت للقسم أو لا حاجة للتقدير ويكتفي بجواب واحد إذ لا مانع من جعل أحد القسمين مؤكدًا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابًا وحذفت اللام كحذفها في قوله:
ورب السموات العلى وبروجها ** والأرض وما فيها المقدر كائن

لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصرى ليس بفرض وكثيرًا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك.
ثم ما كان من هذه الفواتح مفردًا كص أو موازنًا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظًا أو محلًا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرًا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلامًا لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الأشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلامًا جازت حكايتها على تكل الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة والمقصود الايقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلامًا للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن المفردات تحكى بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضى والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضًا على الصحيح أو مزيدة للفصل مثلًا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسمًا بها يكون كل كلمة منها منصوبًا أو مجرورًا على اللغتين في الله لافعلن وهل ذلك المجموع نحو {الم} و{حم} [غافر: 1] أو للألف والحاء مثلًا على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفًا وتصريح الرضى باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحًا في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصًا بما إذا لم يمنع مانع كما في {ص والقرءان} [ص: 1] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرًا بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون: {الم} آية أينما وقعت وكذلك {المص} و{طاسم} وأخواتهما و{طه} و{يس} و{حم} وأخواتها و{كهيعص} آية و{حم عسق} آيتان وأما {المر} وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك {طس} و{ص} و{ق} و{ن} وقال البصريون: ليس شيء من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض {الم} في آل عمران ليست بآية. اهـ.